فصل: تفسير الآيات (53- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (53- 56):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [53- 56].
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي: مع مس الكبر بأن يولد لي، والكبر مانع منه: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} قال الزمخشري: هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني. أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء؛ لأن البشارة بمثل هذا، بشارة بغير شيء.
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} أي: الآيسين من ذلك.
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} يعني لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله تعالى، والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه.

.تفسير الآيات (57- 60):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [57- 60].
{قَالَ} أي: إبراهيم، بعد أن ذهب عنه الروع: {فَمَا خَطْبُكُمْ} أي: أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة: {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} أي: إلى إهلاكهم. يعنون قوم لوط.
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين مع الكفرة، لتهلك معهم. وإسناد التقدير له مجازي من باب قول خواص الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا وإنما يعنون دبر ملك وأمر. هذا إذا كان {قدرنا} بمعنى أردنا وقضينا. وإن كان بمعنى علمنا، فلا غرو في علم الملائكة ذلك، بإخباره تعالى إياهم به.
ومن الناس من يجعل {قدرنا} من كلامه تعالى، غير محكي عن الملائكة. قال في الانتصاف: وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل.

.تفسير الآيات (61- 64):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [61- 64].
{فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: لا أعرفكم ولا أدري من أي: الأقوام أنتم وما أقدمكم.
وقال المهايمي: أي: يخاف منكم تارة وعليكم أخرى. والظاهر أنه قال ذلك لهم بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم، كما فصل في سورة هود.
{قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: العذاب الذي كنت تتوعدهم به، فيمرون به ويكذبونك.
{وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: اليقين مع هلاكهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.

.تفسير الآيات (65- 67):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} [65- 67].
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} أي: فاذهب بهم في الليل: {بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} أي: في طائفة منه، وهي آخره: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} أي: كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطَّلع على حالهم: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أي: لينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه: {وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}.
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أي: يستأصلون عن آخرهم، حال كونهم داخلين في الصبح.
{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} أي: مدينة لوط، وهي سدوم: {يَسْتَبْشِرُونَ} أي: بأضيافه، طمعاً فيهم.

.تفسير الآيات (68- 77):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} [68- 77].
{قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} أي: بالإساءة إليهم، فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف.
{وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ}.
{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي: عن أن تجير أحداً منهم، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد. وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرِّض له. فأوعدوه وقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167]. أفاده الزمخشري.
{قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} تقدم الكلام عليه في سورة هود مفصلاً.
{لَعَمْرُكَ} قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، اعترض به تعباً من شدة غفلتهم وتكريماً للمخاطب: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي: غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم: {يَعْمَهُونَ} أي: يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم. ولما لم يسمعوا منه النصيحة المبقية لهم، أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي: صيحة العذاب: {مُشْرِقِينَ} أي: داخلين في وقت شروق الشمس.
{فَجَعَلْنَا} أي: من تلك الصيحة المحركة للأرض: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} قال المهايمي: لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي: طين متحجر؛ لرجمهم على لواطهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} أي: الناظرين بطريق في الآيات.
{وَإِنَّهَا} يعني مدينة قوم لوط المدمَّرة: {لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} أي: ثابت يسلكه الناس، لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار.
قال الزمخشري: وهو تنبيه لقريش، كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137- 138].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} أي: في هلاكهم لعبرة لهم.
تنبيهان:
الأول: قال ابن القيم في أقسام القرآن: أكثر المفسرين من السلف والخلف، بل لا يعرف السلف فيه نزاعاً- أن هذا- يعني قوله تعالى: {لَعْمُركَ} قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته. وهذه مزية لا تعرف لغيره.
ولم يوفق الزمخشري لذلك، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط. وإنه من قول الملائكة.
فقال: هو على إرادة القول. أي: قالت الملائكة للوط عليه السلام: {لَعْمُركَ} الآية، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب، لا أهل التعطيل والاعتزال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: {لَعْمُركَ} أي: حياتك، قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره. والعَمر والعُمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف؛ لكثرة دور الخلف على ألسنتهم. وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة، فهو عمر شريف عظيم أهلٌ أن يقسم به؛ لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم. ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات، فهو أهل أن يقسم به. والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات. ثم قال ابن القيم: وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة؛ لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل:
سُكْرَانِ سُكْرُ هَوْى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ** وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرانِ

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} قال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل في الفراسة. أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، ثم قرأ هذه الآية. وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام، جرياً على طريق إياس بن معاوية. انتهى.
وقد أجاد الكلام في الفراسة الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة حيث قال في الباب السابع: وأما الفراسة، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله.
وربما يقال: هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله. وقد نبه الله تعالى على صدقها بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُم} [البقرة: 273]، وقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، ولفظها من قولهم فَرسَ السبعُ الشاةَ. فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه، وذلك ضرب من الإلهام، بل ضرب من الوحي، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «المؤمن ينظر بنور الله» وهو الذي يسمى صاحبه: المروّع والمحدَّث. وقال عليه الصلاة والسلام: «إن يكن في هذه الأمة محدَّث فهو عمر».
وقيل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] الآية، إنما كان وحياً بإلقائه في الروع، وذلك للأنبياء كما قال عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلبِكَ} [الشعراء: 193- 194]، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة، وقد يكون في حال المنام. ولأجل ذلك قال عليه الصلاة السلام: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة».
والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية. ومن عرف ذلك كان ذا فهم ثاقب بالفراسة. وقد عمل في ذلك كتب، من تتبع الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه. والفراسة ضرب من الظن. وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال: الظن بتقلب القلب، والفراسة بنور الرب. ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] و[ص: 72]، كان ممن وصفه بقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17]، وكان ذلك النور شاهداً، أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة قوله عليه السلام في المتلاعنين: «إن أمرهما بيِّنٌ، لولا حكم الله».

.تفسير الآيات (78- 81):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [78- 81].
{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} {إن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. أي: وإن الشأن كان أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام. كانوا يسكنون أيكة، وهي بقعة كثيرة الأشجار، فظلموا بأنواع من الظلم، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان. فبعث الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه.
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: بعذاب الظلة، وهي: سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها، فأحرقتهم: {وَإِنَّهُمَا} يعني قرى قوم لوط والأيكة: {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: طريق واضح. وقد كانوا قريباً من قوم لوط، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان. ولهذا لما أنذرهم شعيب قال: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد} [هود: 89].
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} يعني ثمود، كذبوا صالحاً عليه السلام. ومن كذب واحداً من الأنبياء عليهم السلام، فقد كذب الجميع؛ لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. و{الحجر}: واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه. معروف، يجتازه ركب الحج الشاميِّ.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيهم، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]، فلما عتوا وعقروها، قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].

.تفسير الآيات (82- 87):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [82- 87].
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} أي: من حوادث الدهر.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي: وقت الصباح من اليوم الرابع. وفي سورة الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة} [الأعراف: 78] أي: الزلزلة، وهي من توابع الصيحة. أو هي مجاز عنها.
{فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها؛ لئلا تضيق في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق والحكمة الثابتة، التي لا تقبل التغير. وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه، بحيث لا يلائم استمرار الفساد. ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} أي: فيجزي كلاً بما كانوا يعملون: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي: عاملهم معاملة الصفوح الحكيم، كقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة. فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تمزَّق من الأجساد وتفرَّق في سائر أقطار الأرض، كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} قال الرازي: إنه تعالى لما صبَّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها؛ لأن الإنسان إذا تذكر نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
والسبع المثاني هو القرآن كله كما قاله ابن العباس في رواية طاوس؛ لقوله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، والواو في قوله: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} لعطف الصفة، كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

والسبع: يراد بها الكثرة في الآحاد، كالسبعين في العشرات. و{المثاني} جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء، فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه. أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز. أو مثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.
وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول، وهذا لم يقصد به، إلا أن اللفظ الكريم يتناولها، لا أنها هي المعنية. كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء. وأما حديث: «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» عند الشيخين، فمعناه أنها من السبع، لعطف قوله: «والقرآن العظيم الذي أوتيته» ولو كان القصر على بابه، لناقضه لمعطوف؛ لاقتضائه أنها هو لا غيره. وبداهة بطلانه لا تخفى.
وسر الإخبار بأنها السبع، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها، كما بينه الإمام مفتي مصر في تفسير الفاتحة فراجعه. هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية.
وللأثري الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث، أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء، لا بمعنى الكتاب كله. والله أعلم.
وقوله تعالى: